خطر الذّنوب والمعاصي لا شكّ أنّ للذنوب والمعاصي أثرها السيِّئ على الفرد والمجتمع؛ فهي السبب في جلب سخط الله -تعالى- والحرمان من رحمته سبحانه، واستمرار الذّنوب دليل على قرب وقوع العذاب في الدنيا قبل الآخرة، قال تعالى: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ...)،[١] فالشيطان كانت المعصية سبباً في لعنته وسخطه، وهل أُخرِج آدم وحواء -عليهما السلام- من الجنّة إلا بسبب الذّنب؟ وقوم نوح أصابهم الطوفان والغرق بسبب ذنوبهم، وقوم عاد وثمود كلّ ما أصابهم من سخط وصيحة كان بسبب معاصيهم، وهكذا قوم لوط وأتباع فرعون كانت ذنوبهم وصدودهم عن دعوة أنبيائهم سبباً في هلاكهم، لذا ما حلّتْ المعاصي والذّنوب في قوم إلا أهلكتهم.[٢] تعريف الذّنوب الذّنوب هي ترك ما أمر الله -تعالى- به من أوامر، وفعل ما حذّر منه -سبحانه- ممّا جاء الأمر بفعله أو النّهي عن تركه في الأحكام الشرعيّة، سواءً كان قولاً أو فعلاً، ظاهراً كان أو باطناً،[٣] وتُقسَم الذّنوب في الإسلام إلى قسمين؛ صغائر وكبائر، ولكلٍّ منهما مفهوم خاصّ كالآتي:[٤] كبائِر الذّنوب: كلّ ذنب مقترن بوَعيد شديد، أو بعذاب، أو غضب، أو لعنة، أو دخول نار جهنّم. صغائِر الذّنوب: كلّ ذنب عدا الكبائر؛ بمعنى أنّه لم يقترن بوعيد شديد، أو عذاب، أو دخول النار، وتُعرَّف صغائر الذنوب أيضاً بأنّها ما دون الحدّين: حدّ الدنيا، وحدّ الآخرة.[٥] كبائر الذّنوب يظنّ كثير من النّاس أنّ الكبائر سبع؛ وذلك لاشتهار الحديث الوارد عن السبع الموبِقات، فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اجتَنبوا السَّبعَ الموبِقاتِ، قالوا: يا رسولَ اللهِ: وما هنَّ؟ قال: الشِّركُ باللهِ، والسِّحرُ، وقتلُ النَّفسِ الَّتي حرَّم اللهُ إلَّا بالحقِّ، وأكلُ الرِّبا، وأكلُ مالِ اليتيمِ، والتَّولِّي يومَ الزَّحفِ، وقذفُ المحصَناتِ المؤمناتِ الغافلاتِ)[٦] واجتنِبوا؛ أي: ابتعدوا، والموبقات؛ أي: المُهلِكات؛ دلالةً على ما تفعله بصاحبها من العذاب وغضب الله تعالى، إلا أنّ الكبائر في الحقيقة لا تنحصر بهذا العدد، ولكنّ تخصيص الحديث الشريف بها جاء من باب التأكيد على خطورتها وعظيم فُحشها.[٧] الموبِقات السّبع الموبقات السّبع تبدأ بالشِّرك بالله، وهو أن يجعل المرء مع الله إلهاً آخر، يعتقد أنّه يستحق العبادة مع الله سبحانه، وفعل السِّحر يقتضي أذيّة النّاس وإلحاق الضّرر بهم؛ ومنه التفريق بين الزوجين، وقتل النفس اعتداءٌ على كرامة الآدميّ وحقّه في الحياة؛ فالإنسان بناء الله تعالى، والقتل بغير حقّ يستحقّ فاعله القصاص، وأكل الرّبا أكلٌ لأموال النّاس بالباطل؛ لأنّ فيه زيادةً غير مبرّرة شرعاً على أصل المال، واليتيم أوصى به الإسلام واهتمّ به كثيراً؛ فالاعتداء على ماله اعتداء يُنافي رعاية الإسلام به، ويُناقض الحثّ على كفالته، والتّولي يوم الزّحف هو فِرار من وجه العدوّ، أمّا إذا كان من باب تغيير المواقع العسكريّة أو للتمويه على جيش العدو فلا يدخل ضمن الكبائر، وقذف المرأة المسلمة يعني اتّهامها بفعل الزِّنا وما قارب هذا الفعل، ممّا يؤذي سمعتها.[٨] كبائر أخرى يتبيّن من استقراء النّصوص الشرعيّة أنّ الكبائر لا تقف عند حدّ الكبائر السّبع، إذ يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (هنَّ إلى السَّبعينَ أقربُ منها إلى السَّبعِ)،[٩] وقد أفرد الإمام محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي -المتوفى 748هـ- كتاباً سمّاه الكبائر، وقد ذكر فيه سبعين من كبائر الذّنوب، مُستشهداً بالأدلة الشرعيّة التي تؤكد ذلك، ومنها:[١٠] ترك الصّلاة. منع الزّكاة. إفطار يوم من رمضان من غير عُذر. ترك الحجّ مع القدرة عليه. عُقوق الوالدين. هجر الأقارب. الزِّنا. اللواط. الكذب على الله ورسوله. غشّ الإمام للرعيّة وظلمهم. الكِبر، والفخر، والخيلاء، والعجب. شهادة الزّور. شُرب الخمر. القمار. الغلول من الغنيمة. السّرقة. قطع الطريق. اليمين الغموس. قتلُ الإنسانِ نفسَه. الكذب في أغلب الأقوال. أخذ الرّشوة على الحكم. تشبُّه النساء بالرجال، وتشبُّه الرجال بالنساء. الدّيوث الذي لا يغارعلى أهله. عدم التنزه من البول. الخيانة. التكذيب بالقدر. التجسّس على أحوال الناس. النميمة. اللعن، وكثرة الفُحش في الكلام. الغدر، وعدم الوفاء بالعهد. تصديق الكاهن والمُنجِّم. نشوز المرأة على زوجها. اللطم، والنّياحة على الميّت. أذيّة الجار. نقص الكيل، والذّراع، والميزان. سبّ أحد من الصّحابة رضوان الله عليهم. صغائر الذّنوب كلّ ذنب دون الكبائر هو من الصغائر؛ لذا يصعُب حصرها في عدد، ومن الأمثلة عليها:[١١] استقبال القِبلة ببولٍ أو غائطٍ. إمامة من يكرهُه الناس. خِطبة المسلم على خِطبة أخيه. هجر المسلم، وكثرة الخصومة، واستماع الغيبة. اقتناء الكلب لغير حاجة مُعتبَرة شرعاً. ترك إعفاء اللحية؛ أي حلقُ اللحية دون الإصرار على ذلك، فإن أصرّ صاحبها على حلقها صارت إحدى الكبائر.[١٢] مُكفّرات صغائر الذّنوب من رحمة الله -تعالى- بعباده أنْ شرع لهم كثيراً من الأعمال الصّالحة التي تُكفّر صغائر الذّنوب، أهمّها:[١٣] اجتناب الكبائر، قال تعالى: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا).[١٤] التوبة الصادقة، قال صلى الله عليه وسلم: (التَّائبُ من الذَّنبِ كمن لا ذنبَ له).[١٥] إسباغ الوضوء، والمشي إلى الصلاة، وانتظارها من مُكفّرات الذّنوب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلُّكم على ما يمحو اللهُ بهِ الخطايا ويرفعُ بهِ الدرجاتِ؟ قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ، قال إسباغُ الوضوءِ على المكارهِ، وكثرةُ الخُطى إلى المساجِدِ، وانتظارُ الصّلاةِ بعدَ الصلاةِ، فذلكمْ الرّباطُ).[١٦] المتابعة بين الحجّ والعمرة، جاء في الحديث الشريف: (تابِعوا بينَ الحجِّ والعُمرةِ، فإنَّهُما ينفيانِ الفقرَ والذُّنوبَ، كما ينفي الكيرُ خبثَ الحديدِ).[١٧] صيام شهر رمضان المبارك، قال عليه الصّلاة والسّلام: (من صام رمضانَ إيماناً واحتساباً، غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبِه).[١٨] الإصرار على الصّغيرة إنّ التّهاون بفعل الصّغيرة، وتكرار فعلها، مع الإصرار عليها، والاستخفاف بسِتر الله -تعالى- للعبد، والمُجاهَرة بها بين النّاس، بل والفرح بها أحياناً، واستصغار شأنها، كلّ ذلك ينتقل بالمعصية من كونها صغيرةً إلى مصافِّ الكبائر بالقول الرّاجح عند العلماء، فالإصرار على المعصية وإنْ كانت صغيرةً ينقل صاحبها بسهولة إلى ارتكاب الكبائر


الذنوب يُعرّف الذنب على أنه الإثم، أو الجرم، أو المصعية، أو ارتكاب أمرٍ غير مشروع،[١] ومن الجدير بالذكر أن الذنوب لا تقاس بحجمها، وإنما تقاس على من اجترأ العبد عليه، فقد قال بلال بن رباح رضي الله عنه: "لا تنظر إلى صغر الذنب، ولكن أنظر على من اجترأت"، ولذلك كلما زاد الإيمان في القلب، زاد الإحساس بقرب الله -تعالى- وعظمته، مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإحْسَانُ أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّه يَرَاكَ)،[٢] وكلما شعر العبد أن الله -تعالى- معه استحى منه، وكلما استشعر عظمة الخالق رأى الذنب الصغير في حقه عظيماً، وقد بيّن أهل العلم أنه كلما عظم الذنب عند العبد صغر عند الله تعالى، وكلما صغر الذنب عند العبد كبر عند الله تعالى، حيث إن المؤمن ينظر إلى الذنب كالجبل على صدره، بينما يرى المنافق ذنبه كذبابة طردها.[٣] وفي الحقيقة أن للذنوب والمعاصي آثار سلبية خطيرة في الدنيا والآخرة، ويشمل تأثيرها البدن والقلب، ومنها: حرمان العلم، لا سيما أن العلم نور، والمعصية تحرم العبد من ذلك النور، وتفسد العقل وتُذهب نوره، بالإضافة إلى أن تكرار المعاصي يؤدي إلى حبها وأُلفتها، إلى أن يتباهى فاعلها ويجاهر بها فلا يُعافى منها، كما أن المعاصي تورث الذل، وتزيل النعم، وتسبب غضب الله -تعالى- ونقمته، فتحل لعنته على العاصي، وقد تكون المعاصي سبباً للزلازل والخسف، وفساد البلاد والعباد.[٤] الكبائر في الإسلام الكبائر جمع كبيرة، وتُعرّف الكبيرة لغةً على أنها الشيء العظيم، حيث تقول العرب أكبرت الشيء أي استعظمته، ومنها قول الله تعالى: (فَلَمّا رَأَينَهُ أَكبَرنَهُ)،[٥] أي عظّمنه، وبناءً على ما سبق يمكن القول أن الكبائر هي الذنوب العظيمة، وتجدر الإشارة إلى أن أهل العلم قد قسّموا الذنوب إلى صغائر وكبائر، ولكنهم اخلتفوا في حصر عدد الكبائر من الذنوب، حيث قال فريق منهم بأن للكبائر عدد محدد، ولكنهم اختلفوا فيما بينهم في عددها بسبب عدم ورود دليل من القرآن الكريم أو السنة النبوية يدل على حصر عددها، فمنهم من قال أن عددها أربعة، وقيل إن عددها سبعة، وقيل إنها تسعة، وقيل إن عددها سبعمائة، ورُوي عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنه قال: "هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع"، أما الذين قالوا بعدم حصر الكبائر بعدد معين فقد اختلفوا فيما بينهم في الضابط الذي يفرّقون به الكبائر عن الصغائر، ويمكن بيان أقوالهم فيما يأتي:[٦] اتفاق جميع الشرائع على التحريم: حيث يرى أصحاب هذا القول أن الضابط في تحديد الكبائر اتفاق جميع الشرائع على تحريمها، وأن الذنوب التي تحرّمها شريعة دون أخرى تعد من الصغائر، ومما يدل على ضعف هذا القول أن زواج المحارم أو بعض المحرمات من الرضاعة لم يكن محرماً في بعض الشرائع، بالإضافة إلى استحالة تحديد ما اتّفقت عليه جميع الشرائع بسبب عدم وجود عالم بتلك الشرائع على وجهها. ترتّب الحد عليها في الدنيا: حيث يرى أصحاب هذا الرأي أن الكبائر تشمل كل ذنب يترتب عليه حد في الدنيا، أو عذاب، أو وعيد، أو غضب، أو لعن، أو تهديد في الآخرة، وهذا هو القول المأثور عن السلف. قصد ارتكاب الذنوب: حيث يرى أصحاب هذا القول أن الكبائر ما تعمّد الإنسان فعله من الذنوب، وأنّ ما وقع عن طريق الخطأ أو النسيان يعد من الصغائر، وقد بيّن ابن القيم -رحمه الله- ضعف هذا القول؛ لأن ما وقع عن طريق الخطأ والنسيان والإكراه لا يُعد من المعاصي. كل المعاصي: وهذا القول منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقد علّق عليه البيهقي -رحمه الله- قائلاً: "يحتمل أن يكون هذا في تعظيم حرمات الله، والترهيب عن ارتكابها، فأما الفرقُ بين الصغائر والكبائر فلا بد منه في أحكام الدنيا والآخرة على ما جاء به الكتاب والسنة". الاستحلال: حيث يرى أصحاب هذا الرأي أن الكبائر تشمل الذنوب التي يستحلّها فاعلها؛ كذنب إبليس، أما الصغائر فهي ذنوب المستغفرين كذنب آدم عليه السلام، ومما يدل على ضعف هذا القول، أن استحلال الذنوب يُعد كفراً في حال العلم بتحريمها، ويعذر في حال التأويل والتقليد، أما المستغفر فإن استغفاره يمحو الصغائر والكبائر. أنواع الكبائر في الإسلام تنقسم كبائر الذنوب إلى أنواعٍ عدّة، ويمكن بيان بعض هذه الأنواع فيما يأتي:[٧] كبائر القلوب: وثمّة العديد من الأمثلة على كبائر القلوب، ومنها الكفر: وهو الجحود بوجود الله تعالى، أو إنكار أحد أسمائه وصفاته، أو تكذيب أحد كتبه، أو رسله، ويُعد الكفر من أعظم الكبائر، مصداقاً لقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّـهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ*خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ)،[٨] ومنها الشرك: وهو صرف العبادة لغير الله تعالى، أو اعتقاد وجود شريك له في الخلق أو الأمر، ويُعد الشرك من أكبر الكبائر، مصداقاً لقول الله تعالى: (إِنَّ اللَّـهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّـهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا)،[٩] ومن الأمثلة الأخرى على كبائر القلوب النفاق، والاستكبار، والسحر، والطيرة. كبائر الجوارح: وينقسم هذا النوع من الكبائر إلى قسمين، الأول كبائر العلم والجهاد، ومن الأمثلة عليها تعلّم العلم لغير وجه الله تعالى، وكتمان العلم، والكذب على الله -تعالى- ورسوله صلى الله عليه وسلم، وترك الدعوة إلى الله، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك الجهاد في سبيل الله، والتولي يوم الزحف، وموالاة المشركين والاستعانة بهم في القتال، والقتال تحت راية عمياء، والقسم الثاني كبائر العبادات؛ ومن الأمثلة عليها ترك الصلاة، ومسابقة الإمام في الصلاة، والتخلف عن صلاة الجماعة، ومنع الزكاة، وترك الصيام والحج.[١٠] كبائر المعاملات: ومن الأمثلة عليها الحكم بغير ما أنزل الله تعالى، مصداقاً لقوله عز وجل: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ فَأُولَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)،[١١] وقوله تعالى: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ فَأُولَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)،[١٢] وقوله تعالى: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ فَأُولَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)،[١٣] وغش الإمام لرعيته، مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما مِن عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَومَ يَمُوتُ وَهو غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عليه الجَنَّةَ)،[١٤] ومن الأمثلة الأخرى على كبائر المعاملات؛ القمار والميسر، وشهادة الزور، والتحايل على الشرع، وغش الناس


الشرك والإيمان إنّ من ضروريّات الإيمان بالله تنزيهه -سبحانه وتعالى- عن الكفؤ والمثيل والنّد والشريك، وعن كونه بحاجة أحدٍ من خلقه، وأنَّ له زوجةً وولداً، وأنه ينتفع بعبادة الناس أو يتضرر من معاصيهم، وإن الاعتقاد بشيءٍ من تلك الأمور يُعتبر مُناقضاً للإيمان القويم ومُنافياً للفطرة السليمة، كما بيّنت ذلك نصوص القرآن الكريم وآياته في العديد من المواضع، ممّا يجعل المرء أبعد عن الله وأقرب للكفر، وإنّ الإيمان بكلِّ تلك الجزئيات مُلازمٌ لقبول العمل، والكفر يوجب إبطال الأعمال والطاعات، فما هو الشِّرك بالله، وما هي أنواعه، وكيف يمكن للمسلم تجنُّب الوقوع في الشرك والشركيَّات. مفهوم الشرك يُعتبر الشِّرك من المُصطلحات كثيرة الترداد في الشريعة الإسلامية، بل حتى في الشرائع الأخرى التي جاء بها الأنبياء الكرام؛ وذلك لما لها من علاقةٍ وثيقةٍ بقبول الإيمان وقوَّته أو ردِّه على صاحبه إن أحدث في دينه ما كان فيه من الشركيّات، ولتعلقه بعلاقة الناس جميعاً مع خالقهم من حيث إفراده بالخلق والإيجاد، أو إشراك أحدٍ معه في خلق الكون أو العبادة بلا وجه حق، وقد بيّنت ذلك جميع الكُتب السماوية التي جاء بها الأنبياء والرسل بالإضافة للقرآن الكريم، وفيما يأتي بيان معنى الشرك في اللغة والاصطلاح: الشرك في اللغة الشِّرك في اللُّغة هو: اتِّخاذ الشَّريك والنِّد، ويكون ذلك بأن يُجعل أحدٌ شريكاً لأحدٍ آخر إمّا من الناس أو غيرهم، ومنه الشركة: حيث إنّ الشركة تقوم على تشارُك مجموعة من الأشخاص بملك عقارٍ واحد، أو مؤسّسةٍ واحدة، ويُقال: أشرك بينهما إذا جعلهما اثنين، أو أشرك في أمره غيره إذا جعل ذلك الأمر لاثنين.[١] الشرك في الاصطلاح للشرك في المعنى الاصطلاحي عدّة معانٍ بحسب النتيجة التي يوصل إليها الشرك، كما أنَّ له معنىً خاصّاً رئيسيّاً حسب المنظور الشرعي للشرك، وبيان ذلك في الآتي:[١] معنى الشرك في الاصطلاح: هو اتّخاذ شريكٍ أو نِدٍّ مع الله -سبحانه وتعالى- في كونه ربَّاً خالقاً مُتصرِّفاً في الكون والخلق، أو في عبادة أحدٍ معه من البشر أو الكائنات أو المخلوقات أو الجمادات، أو في الأسماء والصّفات بإضافة ما لم يُسمِّ به نفسه من الأسماء ولم يتَّصف به من الصِّفات، أو أن يُعطي صفةً من صفات الله أو اسماً من أسمائه لأحدٍ من الخلق، كما فعل اليهود والنصارى وغيرهم من أصحاب الأديان السماويّة. ويُقصد بالنِّد هنا: النًَّظير والشبيه والمثيل لله -سبحانه وتعالى-، لهذا فقد نهى الله -عزَّ وجلَّ- عن اتّخاذ ندٍّ له من الخلق، وذم وبَشَّعَ من يقوم بذلك فيتَّخذ من دون الله أنداداً، ومثال ذلك قول الله سبحانه وتعالى: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).[٢] أنواع الشرك يُقسَم الشِّرك إلى نوعين رئيسين؛ هما الشِّرك الأكبر والأصغر، ويُقسم كلُّ نوعٍ منهما إلى أنواعٍ عدة بحسب درجة الشرك وطبيعته ونوعه، وتوضيح ذلك كالآتي: الشرك الأكبر هذا النوع هو الأهم؛ لما يترتّب عليه من نتيجة ربما توصل المرء إلى النار والعياذ بالله، ويُقسم هذا النوع من الشرك إلى عدّة أنواعٍ بحسب طبيعة الشرك المُندَرج تحته، وبيان ذلك فيما يأتي:[٣] شركٌ في الربوبيّة: هو أن يعتقد المرء بأن هناك شريكاً لله -سبحانه وتعالى-، مُتصرِّفاً في الكون بالخلق والإنشاء والإيجاد والتدبير، وقد ادّعى فرعون ذلك لنفسه، وجاء بيان ذلك في قوله تعالى على لسانه: (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ)،[٤] فكان إغراقه دليلاً على كذب ادّعاءه، فكيف لربٍ أن يعجز عن إنقاذ نفسه من الغرق؟ فلم يستطع إدراك ما ينتظره ليتفاداه ويُبعد الشرَّ عن نفسه، ومن باب أولى أن يعجز عن إنقاذ غيره وإبعاد الخطر عنهم، ومن كان هذا حاله فإنّه يستحيل أن يكون ربّاً مُتصرّفاً في الأمور. الشرك في الألوهيّة: وهو أن يصرف المرء عبادته أو شيئاً منها لغير الله سبحانه وتعالى، فيجعل في تلك العبادة تقرُّباً من ذلك الشريك، ومثال ذلك عبادة الأصنام والأوثان والالتجاء بالقبور والتوَّسُّل بأصحابها، فيجب على من آمن بالله أن يُعزّز إيمانه، ويُثبّته بأن يصرف جميع عبادته ويجعلها مُتوجِّهةً لما يُرضي الله ويُقرّبه منه، ومن ذلك تقرُّبه إليه بالصلاة وإفرادها له، والصّيام وإخلاصه له، والحجّ والزّكاة وغير ذلك من العبادات، وأن يعتقد أنّ الله لم يدع بينه وبين عباده حاجزاً يمنعهم من الالتجاء إليه مباشرةً، فلا يتوسّل إلى صاحب قبرٍ لأن يوصله إلى الله مهما بلغ صاحب ذلك القبر من العلم والتقوى والوَرَع، قال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ*لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ).[٥] الشرك في الأسماء والصفات: وهو أن يعتقد المرء أن هناك من البشر أو الخلق مُتَّصفٌ بصفات الله -عزّ وجلّ- أو واحدةٍ منها، وأنّ اتّصاف ذلك الشخص أو الشيء بتلك الصفة هو كاتِّصاف الله بها، وهو كمن يعتقد أن أحد الخلق يعلم الغيب مثل علم الله عز وجلَّ، أو أنَّ هنالك من الخلق من له من القدرة بحيث لا يستعصي عليه فعل شيء، ولا يقف شيءٌ في وجهه. وقد جمع النبي -عليه الصّلأاة والسّلام- هذه الأنواع بحديثٍ جامعٍ مُختصر، فقد سُئِل مرّةً عن أعظم الذنوب فقال: (أن تَجعَلَ للهِ نِدًّا وهو خلَقَ).[٦] الشرك الأصغر وهذا النوع من الشِّرك هو دون النوع الأول في الدرجة، حيث إنَّ الأول يخرج من الملَّة ويوجب العقوبة على من يعتقد بشيءٍ منه، أما هذا النوع فهو شركٌ أدنى؛ يوجب استحقاق صاحبه للذنب واعتباره من أهل المعاصي، لكنّه لا يخرجه من الملَّة، وذلك لقول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا)،[٧] فإن تاب العبد من هذا الذنب قبل وفاته غفر الله له إن شاء، أمّا إن مات ولقي ربه به غير تائبٍ من ذلك الذنب فإن الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذَّبه على قدر ذلك الذنب، ثم يُدخله الجنة إن شاء. من أنواع وأمثلة الشرك الأصغر ما يأتي:[٣] الحلف بغير الله: فإن بعض المسلمين يلجأ من غير قصدٍ أو اعتقادٍ بمنزلة المحلوف به إلى الحلف بغير الله من الخلق أو المخلوقات أو الجمادات، فهو لا يريد بذلك تعظيم المحلوف به لإيصاله إلى درجات الكمال ليبلغ منزلة الله عز وجل في الجلال والعظمة؛ لأن ذلك يُعتبر من الكفر الأكبر الداخل في النوع الأول من الشرك، لكنّه يريد بحلفه إعطاء اليمين صبغةً أقوى ظنّاً منه أنّ الناس ربما يُصدِّقونه بذلك، ومن الأمثلة على ذلك قول القائل: ما شاء الله وشئت، وقد ورد في الصحيح أنّ يهودياً جاء إلى النبي عليه الصّلاة والسّلام فقال: (إنَّكم تندِّدونَ، وإنَّكم تُشرِكونَ تقولونَ: ما شاءَ اللَّهُ وشئتَ، وتقولونَ: والكعبةِ، فأمرَهُمُ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وعلى آلِهِ وسلَّمَ: إذا أرادوا أن يحلِفوا أن يقولوا: وربِّ الكعبةِ، ويقولونَ: ما شاءَ اللَّهُ، ثمَّ شئتَ).[٨] الرياء: وهو أن يقصد العبد بما يقوم به من الطاعات والعبادات عَرَضَ الدنيا، فيقصد من ذلك تحصيل جاهٍ عند ذي سلطان، أو نيل منزلةٍ رفيعةٍ أو درجةٍ وظيفية، وقد نهى النبي -عليه الصّلاة والسّلام- عن الرياء في العديد من النصوص النبويّة، كما جاء النهي عنه في القرآن الكريم أيضاً، وممّا ذكرته السنّة النبويّة في ذلك ما رُوِيَ عن النبيّ -عليه الصّلاة والسّلام- أنه قال: (إنَّ أخوفَ ما أخافُ عليكم الشِّركُ الأصغرُ. قال: وما الشِّركُ الأصغرُ يا رسولَ اللهِ؟ قال: الرِّياءُ، يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: إذا جزى النَّاسَ بأعمالِهم اذهَبوا إلى الَّذين كُنْتُم تُراؤُونَ في الدُّنيا فانظُروا هل تجِدونَ عندَهم جزاءً).[


الزنا يعرّف الزنا الموجب للحد كما قال العلماء بأنه ما "يتحقق بتغييب رأس الذكر في فرج محرم مشتهى بالطبع من غير شبهة نكاح، ولو لم يكن معه إنزال، فإذا اجتمعت هذه المذكورات كلها، وثبتت بإقرار أو بشهادة أربعة شهداء وجب الحد"،[١] وقد وصف الله -تعالى- عباده المؤمنين بالعديد من الصفات، فهم لا يشركون بالله شيئاً، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا يزنون، والزنا إقامة علاقة جنسيّة ما بين الرجل والمرأة دون عقد الزواج شرعي، وهو أحد الجرائم التي رتَّب عليها الدين الإسلامي إقامة الحد في الدنيا، والخلود في نار جهنم، ما لم يُبدل ذلك بالإيمان والتوبة الصادقة.[٢] وقد أورد القرآن الكريم الزنا في أحد مواضعه مُقترناً بالشرك بالله؛ لما يتسبب به الزنا من اختلاط الأنساب والتعدي على الحرمات، وانتشار العداوة بين الناس، كما جعل الله -تعالى- الزاني المُحصن أحد الثلاثة الذين أحل الله دماءهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحلُّ دمُ امرئٍ مسلمٍ إلَّا بإحدى ثلاثٍ: رجلٌ زنى بعدَ إحصانِهِ فعليهِ الرَّجمُ، أو قتلَ عمدًا فعليهِ القوَدُ، أوِ ارتدَّ بعدَ إسلامِهِ فعليهِ القتلُ)،[٣] وقد أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أنَّ الزاني لا يزني وهو مؤمن، لذلك عندما بايع النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه، بايعهم على ألا يُشركوا بالله شيئاً، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، يقول الإمام أحمد بن حنبل -رضي الله عنه: "ولا أعلم بعد قتل النفس ذنباً أعظم من الزنا".[٢] أنواع الزنا الزنا شرٌ كبير، وينجم عنه من الأضرار والمفاسد ما لا يُمكن إحصاؤه، فالزنا يجمع بين فقد الدين والمروءة والفضيلة والغيرة، ويقضي على الحياء من النفوس، ويُسوّد الوجوه، ويؤدي بالقلوب إلى الظلام والوحشة، كما إنَّه يذهب بكرامة من يقع فيه، ويتعدّاه إلى إلحاق العار بذويه، وقد يتولّد عن الزنا في كثير من الحالات ذنوب وجرائم أُخرى، فإذا حملت المرأة من الزنا، فقتلت ولدها، تكون قد جمعت بين الزنا والقتل، أمَّا إذا أدخلته إلى بيتها، فإنَّها بهذه الحالة قد أدخلت عليهم أجنبياً، ينتسب إليهم وهو ليس منهم، ومن الجناية التي يُلحقها الزناة بأولادهم، إنكار الناس لهم وعدم تقَبُّلهم دون ذنبٍ منهم، فالزنا من أبرز الأسباب المؤدية إلى دمار الأُمم والقضاء عليها، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "ما ظهر الربا والزنا في قرية إلا أذن الله بإهلاكها".[٤] ومن الجدير بالذكر أنَّ جريمة الزنا تتفاوت بحسب ما ينجم عنها من المفاسد والأضرار، فالزنا بحليلة الجار أعظمُ جُرماً عند الله -تعالى- من الزنا ببعيدة الدار، لما في ذلك من إلحاق الأذى بالجار وعدم الاستجابة إلى أمر الله -تعالى- ورسوله -صلى الله عليه وسلم- بالإحسان إلى الجار وكف الأذى عنه، كما إنَّ الزنا بزوجة الغازي أشدُّ جرماً من الزنا بغيرها، وزنا المحصن أعظم إثماً من البكر، كما يتفاوت بحسب مكان ووقت وقوعه، فالزنا في شهر رمضان الفضيل أو في البقاع الشريفة والأراضي المُقدَّسة أعظم منه فيما سواها.[٤] كما إنَّ زنا المحارم من أقبح أنواع الزنا؛ لما فيه من فساد الفطرة وانتكاسها، ولا يقع هذا النوع إلا من فاسد الطبع، وللفضائيات الداعية إلى الرذيلة والفساد من أغانٍ هابطة تُبرز المفاتن، ومسلسلات ماجنة تُعلِّم الناشئة طرق الوصول إلى الفاحشة والرذيلة دور كبير في انتشار هذا النوع من الزنا، كما إنَّ عدم الامتثال إلى أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- والتساهل في عدم التفريق بين الأبناء في المضاجع، وتهاون النساء في اللباس أمام محارمهنَّ، ومجالسة رفقاء السوء، وضعف الإيمان، من أسباب وقوع هذا النوع القبيح من الزنا،[٥] لذلك حرَّم الله -تعالى- جميع الأسباب التي تؤدي إلى الزنا، فقال تعالى: (وَلا تَقرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبيلًا)،[٦] ويحرم الزنا مع جميع النساء مهما كان معتقدهنَّ، وإثم زنا المغتصبة يفوق إثم الزنا بالمطاوعة، أمَّا من زنا بزوجة من خرج مجاهداً في سبيل الله، فإنَّه يؤتى به يوم القيامة ويُقال للمجاهد خذ من حسناته ما شئت.[٧] حد الزنا يُروى أنَّه أتى ماعز بن مالك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأقرَّ بالزنا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لعلَّكَ قَبَّلتَ، لعلَّكَ لَمَستَ، قال: لا، قال: فلعلَّكَ، قال: نَعمْ)،[٨] فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك بإقامة الحد عليه بالرجم، ويُستفاد من فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-أنَّ ما يوجبُ حدّ الزنا هو الإيلاج، فعن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنَّ رجلاً جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له: وجدت امرأة في البستان فأصبت منها كل شيء غير أني لم أنكحها، فافعل بي ماشئت، فأخبره النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنَّ الحسنات يذهبن السيئات، أمَّا عن التوبة، فليس بينها وبين المسلم شيء مهما كان الذنب،[٩] ومن المعروف أنَّ حد الزنا لا يثبت إلا بوجود أربعة شهود، أو الإقرار بالفعل، وحد الزاني المحصن هو الرجم حتى الموت، أمَّا البكر فيجلد مائة جلدة.[١٠] الوقاية من الزنا دعا الدين الإسلامي إلى الزواج، فهو الوسيلة الوحيدة لتصريف الغريزة الجنسية وحفظ النسل، كما رتَّب الإسلام للوقاية من الوقوع في الزنا عدة أُمور منها: الحرص على غض البصر من الرجال والنساء، والالتزام بالحجاب الشرعي كما ورد في سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- مع تعاهد القلب بالطاعات؛ حتى يبقى دائم الوصل بالله تعالى، ونهى الإسلام عن الاختلاط والتبرج، وخلو المرأة بالرجل الأجنبي عنها، وخضوع النساء بالقول، وغير ذلك مما يدعو الى الرذيلة ويثير الغريزة، يقول تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا).[


أثر الذُّنوب والمعاصي تميَّزَ الإنسانُ عن غيرِه من الكائناتِ بِنعمةِ العقلِ الذي هو مِنحةُ اللهِ للتّفسيرِ والتَّحليلِ والاختيار، فكانَ التَّكليفُ للإنسانِ مُرتبطاً بِوعيِهِ وتمييزِهِ وحُضورِ عَقلِه، فما كانَ من الأعمالِ بِغيابِ العَقلِ فلا ميزانَ له، وإنَّما تُقاسُ الأعمالُ بتحقُّقِ الرُّشدِ والتَّمييز، فتُفرَضُ الفُروضُ وتُستَرُ العوراتُ وتوظَّفُ القُدُراتُ وتُقبَلُ العُقود. وقد جُبِلَ الإنسانُ في خَلقِهِ على حبِّ الدُّنيا والإقبالِ عليها وعلى شَهواتِها، وهذا الطَّبعُ البَشريُّ أمرٌ فِطريٌّ لا قِبَلَ للإنسانِ بكبحِهِ أو التطهُّرِ منه والتَّداوي من تأصُّلِه، إلَّا أنَّهُ يَملِكُ اختيارَ البُعدِ عنهُ والتعفُّفِ عن حرامِهِ والتنزُّهِ عن آثامِه، ذلك أنَّ الله ما حرَّمَ من الشَّهواتِ إلَّا خبيثُها، وما حرَّمَ منها إلَّا أبدَلها بطُهر، فيختارُ المُكلَّفُ ما يشاءُ بالحلالِ فيجُزى، ويختارُ بالحرامِ ما يشاءُ فيُجزى، فلا يَخلو آدميٌّ من الذُّنوبِ والمَعاصي، مهما تدافعَ إلى الابتِعادِ عنها، وفي سيرةِ الرَّسول عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (كلُّ ابنِ آدمَ خطَّاءٌ، وخيرُ الخطًّائينَ التَّوَّابونَ).[١] وفي البعد عن الممعاصي شُمولٌ بلا استِثناء، وإنَّما كانَ ذلِك لِعلمِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِفطريَّةِ هذا الأمر وتميِّزِ البَشَرِ به، ولولاهُ لكانوا مَلائكةً مَنزوعي الشَّهوةِ، وإنَّما ذلكَ إبتِلاءٌ واختِبار، وفي قولِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام: (والذي نفسي بيدِهِ لو لم تُذنبوا لَذَهَبَ اللهُ بكم، ولَجاء بقومٍ يذنبون، فيستغفرون اللهَ، فيغفرُ لهم)،[٢] وهو تأكيدٌ للضعفِ الإنسانِ وانسياقِهِ للمعاصي والذُّنوب، لِتُعمِلَ في إيمانِه ما يُشوِّشُ عليهِ بَصيرَته، ثمَّ يَتوبُ فيَجلي ما تعلَّقَ بهِ من غُبارِ الذُّنوب، وليسَ في ذلك تبريرٌ للوقوعِ في الخَللِ أو الإقبالِ على المعاصي، إنَّما يُرادُ به الإكثارُ من التَّوبةِ وإلتزامُها، وتَبديلُ القبيحِ بالحَسن.[٣] كبائر الذّنوب تَختَلِفُ الذُّنوبُ والمعاصي في وَقعِها في النَّفس وفي نتيجَتِها والأضرار المُترتِّبة عليها، ومهما كان، فإنَّها تَشتَرِكُ في كونِها خطأ العَبدِ لِمقامِ ربِّه، ويَتَّفِقُ العُلماءُ على تصنيفِ الذّنوبِ في صنفينِ؛ ذنوبُ الصَّغائِرِ، والكبائر، وفي أسمائها دلالاتٌ تقودُ إلى المَعنى، فالكَبائرُ جمعُ الكبيرة، ومعناها العظيمُ من الذُّنوب، وفي ذلكَ تعظيمٌ لأمرِها وتنبيهٌ لِخطَرِها وما يَترتَّبُ عليها أو يَجنيهِ العَبدُ مِنها، وقَد ذَكَرها اللهُ تَعالى في القرآن الكريم فقال: ﴿ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ﴾،[٤] فدلَّ ذِكرُها على صِحَّةِ تصنيفِ الذُّنوبِ إلى كبائِرَ وصَغائِر، وكُلُّها في مقامِ اللهِ كبيرة، إلاَّ أنَّ بَعضَها يتَّصِفُ بالصِّغرِ نظراً لما هو أكبَرُ منهُ، فالقَتلُ أكبَرُ من السِّحر، والشِّركُ أكبرُ من القتل، وفي قولِ العُلماء أن لا كبيرةَ مع الاستِغفارِ ولا صغيرةَ مع الإصرار، وأمثلُ الأقوالِ في تعريفِ الكَبائر أنَّها ما يَترتَّبُ عليهِ حدُّ في الدُّنيا أو وعيدٌ في الآخرةِ أو غضبٌ أو تهديدٌ أو لَعن، ومع اختِلافِ العلماءِ والفِرقِ في مفهومِ الكَبائر، يبقى هذا القولُ أمثَلَ ما قيلَ في تعريفها؛ لسلامتِهِ من القوادِحِ الواردةِ على غيرِه، ولاشتِهارِهِ عندَ السَّلف.[٥] ماهي الكَبائر قيلَ في الكبائِرِ أنَّها ما اختُتِمَ بعدَ ذِكرِهِ بنارٍ أو لَعنةٍ أو غَضبٍ أو عَذاب، وقيلَ فيها أقوالٌ كثيرةٌ، منها أنَّها ما اتَّفقت الشَّرائعُ على تجريمِه، أو هي ما عُصِيَ الله به، أو هيَ ذُنوبُ العَمد، وقيلَ هيَ ما استَباحَهُ العَبدُ بقصدٍ، وقيلَ الشِّرك كبيرةٌ وما عداهُ صغائر، وأبرزُ ما اجتَمعَ عليهِ السَّلَفُ في فَهمِ الكَبائرِ وتَعريفها أنَّها ما يُوجِبُ الحدّ في الدُّنيا والسَّخطَ في الآخرة، وما أتبَعَهُ اللهُ بالوَعيدِ والغَضبِ والتَّهديدِ واللَّعن. أمَّا تِعدادُها فقيلَ فيه أيضاً أقوالٌ كَثيرة، فقيلَ بِحصرِها بأعدادٍ معلومة، وفي ذلك قيلَ أربَع، وقيلَ سبع، وقيلَ تسع، وقيل إحدى عَشر، وزادَ آخرونَ بقولِ إنَّها أقرَبُ إلى السبعمائةِ من السَّبع، وذلكَ قولُ ابن العبَّاسِ رضي الله عنه، وفيها قالَ آخرونَ بأنَّها لا تُحصَرُ بِعددٍ، واستَندوا بذلك لِعدَمِ وجودِ دليلٍ من القرآنِ والسُّنةِ يُفيدُ حَصرها في عددٍ.[٦] وقد أتت الأحاديثُ بِتِبيانِ بَعضِ الكَبائِرِ والإشارةِ إليها، ومن ذلك تِسعٌ أخبرَ عنها سيَّدُ البشريَّة، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حجَّةِ الوداعِ (إنَّ أولياءَ اللهِ المصلُّون ومن يقيمُ الصَّلواتِ الخمسَ الَّتي كتبهنَّ اللهُ عليه، ويصومُ رمضانَ، ويحتسِبُ صومَه، ويؤتي الزَّكاةَ محتسبًا طيِّبةً بها نفسُه، ويجتنبُ الكبائرَ الَّتي نهَى اللهُ عنها. فقال رجلٌ من أصحابِه: يا رسولَ اللهِ، وكم الكبائرُ؟ قال تسعٌ، أعظمُهنَّ الإشركُ باللهِ، وقتلُ المؤمنِ بغيرِ حقٍّ، والفِرارُ من الزَّحفِ، وقذفُ المُحصَنةِ، والسِّحرُ، وأكلُ مالِ اليتيمِ، وأكلُ الرِّبا، وعقوقُ الوالدَيْن المسلمَيْن، واستحلالُ البيتِ الحرامِ قِبلَتِكم أحياءً وأمواتًا. لا يموتُ رجلٌ لم يعملْ هؤلاء الكبائرَ، ويقيمُ الصَّلاةَ، ويؤتي الزَّكاةَ إلَّا رافق محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في بحبوحةِ جنَّةٍ أبوابُها مصاريعُ الذَّهبِ).[٧] :[٦] وقد صحَّ عن رَسولِ الله عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ذكرُ الشِّركِ بالله كأعظَمِ الكَبائرِ عند الله؛ وذلك لِكونِه الذَّنبُ الذي لا يُغفرُ بغيرِ التَّوبةِ منه والبراءة، ثمَّ أتبَعَ ذلكَ قتلَ الوَلدِ خشيَةَ الفَقرِ أو المشاركةِ في الإنفاق، ثمَّ الزِّنا بزوجةِ الجار، (قال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ، أيُّ الذنبِ أكبرُ عندَ اللهِ؟ قال: أن تَدعوَ لله ندًا وهو خلَقَك. قال: ثم أيُّ ؟ قال: ثم أن تَقتَلَ ولدَك خشيةَ أن يَطَعَمَ معك. قال: ثم أيُّ؟ قال: ثم أن تُزانِيَ بحليلةِ جارِك. فأنزلَ اللهُ- عز وجل- تصديقَها : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك. الآية).[٨] وزادَ في ذلكَ ابن العبَّاسِ رضي الله عنهُ الفِرار يوم الزَّحف، وزادَ عبداللهِ بن عمر رضي الله عنه عقوق الوالدين.[٩] وفي صحيح أبي داوودَ أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ قالَ: (اجتنِبوا السَّبعَ الموبقاتِ. قيلَ: يا رسولَ اللَّهِ، وما هنَّ؟ قالَ: الشِّرْكُ باللَّهِ، والسِّحرُ، وقتلُ النَّفسِ الَّتي حرَّمَ اللَّهُ إلَّا بالحقِّ، وأكلُ الرِّبا، وأكلُ مالِ اليتيمِ، والتَّولِّي يومَ الزَّحفِ، وقَذفُ المُحصَناتِ الغافلاتِ المؤمناتِ).[١٠]والموبِقاتُ هي المُهلِكات، فهي الكفيلةُ بمصاحبةِ فاعِلها حتَّى تطرحه إلى النَّار. وفي ذِكر هذهِ السَّبعُ اشتراكٌ في التعدِّي من أذى الذَّاتِ إلى إلحاقِ الضَّررِ بالغيرِ، وفيها فَسادُ المُجتمعِ وخرابه، وإفشاءُ الظُّلمِ وهوانُ الحقَّ، فتختلِطُ المَفاسِدُ فيهِ لِتعمِلَ فيه التَّفكُّكَ والضَّعف.[١١] وقَد توسَّعَ بعضُ الأئمةِ في ذكرِ الكَبائرِ مُستَندينَ لكونِها غيرَ محصورةٍ بِعدد، وفي ذلك ما صنَّفهُ محمد بن عبد الوهَّابِ في كتابِه الكبائر، فقسَّمها في مُستَوياتِ الضَّعفِ في ما يستَقرُّ في القَلبِ، أو ما يَنطَلِقُ بهِ اللسان، أو ما يتعلَّقُ بالمظالم، وذكر أكبَر الكَبائر مُستدلاً بحديثِ الرَّسولِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام، فَحصَرَ أكبَرها بالشِّركِ، وعقوق الوالدينِ، وشهادة الزُّور


الحلال والحرام مع تعدُّد الدِّياناتِ وتعاقُبِها ومرورِ الرُّسلِ واستخلافِهم كانت تَظهرُ مجموعةٌ من القوانينِ والتَّعليماتِ النَّاظمةِ لحياةِ النَّاس والمُرشدةِ لهم، لتمثِّلَ دساتيرَ إلهيَّة تدلُّ الناس إلى ربِّهم، وتُعلِّمهم كيف يعبدونه ويلتزمون أوامره ويقيمون حدوده، وفي مجمَلِ هذه الدَّساتير تشريعاتٌ تُحلُّ أموراً مما استمرأها النَّاس واستحلُّوها ووجدوا فيها الخير، وتُحرِّمُ الخبيث والفسقَ وما يسوق الظلم والجور والاختلافات والغبن والفساد، ذلك أنَّ الله ما كانَ ليشرعَ للنَّاسِ حلالاً فيهِ خبثٌ ولا يُحرِّمَ عليهم طاهراً أو أمراً طيِّباً، وكانَ ذلكَ مما اتَّصَفَ به ربُّ العزَّةِ جلَّ وعلا، ففي الحديث الشَّريفِ: (يا أيُّها الناسُ إنَّ اللهَ طيِّبٌ ولا يقبلُ إلا طيبًا وإنَّ اللهَ أَمَرَ المؤمنين بما أَمَرَ به المرسلينَ).[١] وكانَ مما أجمعت الدِّيانات على تحريمه ومُعاقبة مرتكبه فاحشة الزِّنا التي تورِّث المجتمع آفاتٍ وبلايا وأمراض ماديّة جسديّة ومعنوية أخلاقيَّة[٢][٣]. الزنا يُفيدُ مصطلح الزِّنا في اللغةِ عدَّة معانٍ منها الضِّيقُ والارتفاع؛ فيقالُ زنأ في الجبل إذا صعده وارتفع فيه، أما معنى الزِّنا في اصطلاح الشَّريعة والفقهاءِ فمتعلِّقٌ بفعلٍ يجتَمِع عليهِ آدميانِ رجلٌ وامرأةٌ بغيرِ شبهةِ زواجٍ أو عقدٍ صحيحٍ فيلتقي الختانانِ ب إيلاج الفرج بالفرجِ. يجتَمِعُ جمهورُ العلماءِ على تعريفهِ بأنَّهُ وطء المرأةِ من القُبُلِ شرط تغييب الحَشَفة دون شبهة استحلالٍ كالزَّواجِ المبيح للاستمتاع أو ملكِ اليمين أو غيرها ممّا يؤذنُ فيه للرجل إتيانُ المرأة، واستثني من التَّعريفِ إتيان المرأة من دبرها لاختلافِ الفعلِ والحدِّ مع تحريم كلا الفعلين، وفي الآيةِ الكريمةِ (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً )[٤]نهيٌ عن الفعلِ وتقبيحٌ.[٥][٦][٧] الزِّنا المجازيّ يشتمل تعريف الزِّنا على مُقدِّماتِه ومُقوِّماتِه من إطلاقِ النَّظر أو استماع المُحرَّمِ أو طلب الحرامِ أو لمس جَسدِ المرأةِ وتقبيلها وإتيانها في فمها وغير ذلك مما يتضمَّنُ مُخالطةَ الأجنبيَّةِ والخلوةُ بها بصورةٍ غير شرعيَّةٍ، ودليل ذلك (حديثُ رسولِ اللهِ عليه الصَّلاة والسَّلام: كتب على ابنِ آدمَ حظُّه من الزنا فهو مدركٌ ذلك لا محالةَ، فالعينانِ تزنيانِ وزناهما النظرُ، والأذنانِ تزنيانِ وزناهما السمعُ، واليدان تزنيان وزناهُما البطشُ، والرِّجلانِ تزنيانِ وزناهُما المشيُ، والقلبُ يتمنى ويشتهي، والفرجُ يصدقُ ذلك أو يكذبُه)[٨][٩] لا يشتمِلُّ الحدُّ على غير الزِّنا الحقيقي المشروط بإيلاجٍ وتغييبٍ للحشفة أو جزءٍ منها داخل القُبُلِ ولو كانَ ذلِكِ بوجودِ ساترٍ كاللِّباسِ فإنَّهُ يوجِبُ الحدَّ، أمَّا ما يَتمتَّعُ فيهِ الرَّجلُ بامرأةٍ أجنبيَّةٍ لا تحلِّ له من غير إيلاجٍ فإنَّهُ من الزِّنا الظَّاهِر أو المجازيّ الذي لا يوجبُ الحدَّ ويقتضي التَّوبة كونه لم يستوف شرط الإيلاج، والعلَّةُ في ذلك أنَّ حدَّ الزِّنا معنيٌّ بموضِعِ الحرثِ حفظاً للأنسابِ ودرءاً لاختلاطها وانتشار المفاسدِ الناتجة عنها، ويحسن وصف هذه الأعمال بأنَّها من اللَّممِ، وهو ما يأتيهِ المرءُ من الفواحِشِ دونَ الزِّنا الموجبِ للحدِّ لما جاء في شرح ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما في تفسيرها.[١٠][١١][١٢] شروط تحقق الزِّنا كفِلَ الإسلامُ إقامةَ العَدلِ لجميعِ النَّاسِ حتَّى الظالم منهم، ولم يجعل إنفاذ الحدود وتطبيق العقوباتِ غايةً لذاتِه؛ بل جعلها تربيةً للنَّفس وتهذيباً للمجتمع ودرءًا للفتن والمفاسِد المُترتِّبةِ على استباحة الحرام والتعدِّي على حدود الله، ومع تصنيفِ الإسلام للفاحشةِ المصطلحِ عليها بالزِّنا كان لزاماً تبيان الوجه الصريحِ لحدوثِ الحالة وتحقُّقها خروجاً من دوائر الوهم والتَّشكيك، فغلَّظَ العقوباتِ على القذفِ بالزِّنا وسَتَر الفعلَ ولو صريحاً ما لم يشهد عليه أربعة من العدولِ الثِّقات، وقد بيَّن الإسلام أن للزِّنا شروطاً لا يتحقُّق إلا بها: تعمُّدُ الزِّنا بالإيلاج مع العلم بحرمته، وينبغي لتحّققِ العمدِ بالشيء وقصدِه حضورِ عنصرين هما العلم بحاله وحلاله أو حرامه وعقوبته وحدوده وصوره، ثم إرادة الفعلِ والنيَّةُ في تحقيقه والسَّعي في طلبه، وحالَ اجتماع العنصرين تكتمل أركان الشرط الأول. وطء القُبُلِ تحديداً بإدخالِ حشفةِ الذَّكرِ أو مثلها في فرج الأنثى.[١٣] إذا اجتمعَ الشَّرطانِ معاً تحقَّقَ الزِّنا وأوجب الحدّ، وإن انتقض أحدهما فلا يوجب الحدَّ كأن يطأ الرَّجل امرأةً أجنبيَّةً ظنَّها زوجته أو العكس، ففي مثل هذه الحالات لا يتحقَّق الزِّنا لغياب الشَّرطِ الأوَّل المبنيِّ على الإرادة، أو كأن يقصد الرَّجل وطأ أجنبيَّةٍ ثم يعودُ بالمداعبةِ دون الإيلاج مهما بَلغت فلا يتحقّق الزِّنا لانتقاضِ الشَّرط الثاني. عقوبة الزِّنا ميَّزت الشريعة الاسلاميةُ عقوبة الزَّاني تبعاً لحاله إن كانَ بكراً أو ثيِّباً مُحصناً، وحكَمت بالتَّشديدِ على المحصَّنِ فقضى عليهِ الشَّرعُ بالرَّجم ذكراً كان أو أنثى، ويكون الرَّجمُ بالرَّمي بالحجارةِ حتَّى الموت، يسبقها عند بعض الأئمة جلده، أما البِكرُ فله الجلدُ ذكراً كان أو أنثى، ويُجلَدُ البِكرُ مائة جلدةٍ ردعاً وتعزيراً من غير كسرٍ ولا إحداثِ علَّة، ويزيدُ بعضُ الأئمَّةِ فيها تغريبُ عامٍ للذَّكرِ عن مُستقرِّهِ أو قريتهِ، فيما تُغرَّبُ الأنثى مسيرة ليلةٍ خارجَ بيتِها. أورَد القرآنُ عقوبةَ الزِّنا في غير موضعٍ من آياته، منها: (قول الله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ)[١٤]وكانت هذه الآيةُ ناسخةً لآيةِ عقوبتي الحبسِ والإيذاء اللتين سبقتاها في سورة النِّساء، فيما تُعاقَبُ المملوكةُ بنفس حدِّ الحرَّةِ تحقيقاً لما ورد في سورة النِّساء في حدِّ الأمة، (قال تعالى: فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ)[


حكم الربا أصل الربا أن أهل الجاهلية كانوا يزيدون في الدّيْن عند حلول أجله، وبمجيء الإسلام حُرّم الربا،[١] وورد التحريم في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية وإجماع العلماء، ومن استحلّه خرج من ملّة الإسلام، فمن أنكر أمراً أجمع العلماء عليه إجماعاً ظاهراً عُدّ كافراً، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن الإيمان بوجوب الواجبات الظاهرة المتواترة، وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة هو من أعظم أصول الإيمان، وقواعد الدين، والجاحد لها كافرٌ بالاتفاق"، ومن الأدلة الواردة في تحريم الربا قول الله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّـهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)،[٢] كما رُوي عن أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- أنه قال: (لعَن آكِلَ الرِّبا وموكِلَه وشاهدَيْه وكاتبَه).[٣][٤] تعريف الربا تعريف الربا لغةً يعرّف الربا في اللغة بأنه الزيادة، فيقال: أربى فلانٌ على فلان؛ أي زاد عليه، ورَبا الشيء؛ أي زاد عن الأصل الذي كان عليه، فهو يربو ربواً، ويقال للمنطقة المرتفعة عن الأرض وغير المستوية مع الأرض رابية؛ بسبب عظمها وارتفاعها، ويقال: فلانٌ في رباوة قومه؛ أي إنه صاحب رفعةٍ وشأنٍ في قومه، والأصل في الربا الأناقة والزيادة.[٥] تعريف الربا اصطلاحاً عرّف الفقهاء الربا بعدّة تعريفات؛ فقال كل من المالكية والشافعية بأنه العقد الذي يتمّ على عِوضٍ مخصوصٍ دون علم التماثل في معيار الشرع عند العقد، أو بتأخير كلا أو أحد العوضين، وعرّفه الحنفية بأنه الفضل الخالي عن العوض بمعيارٍ شرعيٍّ بشروطٍ لأحد المتعاقدين في المعاوضة، وعرّفه الحنابلة بأنه الزيادة في أشياءٍ مخصوصةٍ.[٦] أنواع الربا يتفرّع الربا إلى نوعين، بيانهما فيما يأتي:[٧] ربا الديون: ويقصد به الزيادة في الدّيْن مقابل الزيادة في الأجل والمدّة، وهو النوع الذي حُرّم بنص القرآن الكريم، وهو ما كان شائعاً في الجاهلية، وهو النوع المشهور من أنوع الربا، وأشدّها وأخطرها. ربا البيوع: ويقصد به بيع الأموال الربوية بعضها ببعض، وتشمل: الفضة، والذهبن والبر، والتمر، والملح، والشعير، قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بالذَّهَبِ إلَّا سَواءً بسَواءٍ، والفِضَّةَ بالفِضَّةِ إلَّا سَواءً بسَواءٍ، وبِيعُوا الذَّهَبَ بالفِضَّةِ، والفِضَّةَ بالذَّهَبِ كيفَ شِئْتُمْ)،[٨] ويتفرّع ربا البيوع إلى نوعين؛ هما: ربا الفضل: ويقصد به الزيادة في أحد العوضين عن الآخر عند بيع مال ربوي بمالٍ ربويٍّ آخر، على أن يكونا من جنسٍ واحدٍ، مثل بيع الفضة بالفضة مع الزيادة في أحدهما؛ فلا يجوز ذلك البيع إلا إن كان كلا العوضين متماثلين، وأي زيادةٍ تطرأ على أحدهما جعل البيع محرّماً. ربا النسيئة: ويقصد به التأخّر في قبض أحد العوضين في بيع الأموال إن اتّحدا في العلة، فيجوز التفاضل في بيع الذهب بالفضة على سبيل المثال، أو الفضة بالذهب، أو عملة بعملةٍ أخرى، وتجوز الزيادة ويجوز النقص في العوضين، ولكن العلة أن يتمّ التقابض في مجلسٍ واحد. الحكمة من تحريم الربا تترتب على الربا العديد من المضارّ الاجتماعية والاقتصادية، وفيما يأتي بيان عددٍ منها:[٩] انتشار التعامل بالقروض الاستهلاكية، وهي القروض التي يأخذها أصحاب الدخل المتوسّط أو المعدوم بغرض سداد حاجاتهم والخروج من الضوائق الواقعين بها، إلا إن الفوائد المترتبة عليها كبيرةٌ جداً، مما يؤدّي إلى تمكين أصحاب الأموال من الاستبداد بالفقراء وأصحاب الحاجات، وقد يؤدّي أيضاً إلى سلوك الطرق السيئة وارتكاب الجرائم المختلفة، والتقليل كذلك من الكفاءات والنشاطات البدنية والذهنية، وذلك كله يؤدي إلى إضعاف الاقتصاد، فالمرابي بترتيبه للفوائد الربوية على القروض يسلب القوة الشرائية من المقترض، أي إن البضائع تتكدّس وتتوقّف حركتها. تربية المرابي على البخل والشحّ وعدم الإنفاق، وتحجّر وقسوة قلبه، وعدم مساعدة أحد لغيره، بل وعدم تقدميها إلا مقابل مصلحة ما، وانعدام التعاون بين أفراد وطبقات المجتمع، وتفكّكها وتشتّتها. ازدياد نسبة البطالة في المجتمعات، والتقاعس عن العمل واستغلال القدرات والطاقات، فالمرابي يتقاعس عن العمل النافع المفيد للمجتمع والأفراد، وبالتالي انعدام فرص العمل. انعدام وجوه وأبواب الخير بين المسلمين بانعدام القرض الحسن، وانتشار الربا والاعتماد عليه، فينعدم تفريج الهموم والكروب عن المسملين، فالمرابي يصعّب إعطاء القروض الحسنة لغيره، وقد وردت عدّة أحاديث في فضل تنفيس الكروب والهموم عن المسلمين، منها قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (مَن نَفَّسَ عن مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِن كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عنْه كُرْبَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ، وَمَن يَسَّرَ علَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللَّهُ عليه في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَن سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ).[١٠] نشر العدواة والبغضاء بين المسلمين، والتسبّب في القطيعة والفتنة فيما بينهم. خطورة الربا تترتّب على الربا العديد من المخاطر، وفيما يأتي بيان البعض منها:[١١] نيل العقوبة المترتّبة على الربا في الدنيا والآخرة، قال الله -تعالى- في وصف آكل الربا يوم القيامة: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا)،[٢] وقال ابن كثير مفسراً الآية: "أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه، وتخبّط الشيطان له، وذلك أنه يقوم قياماً منكراً"، وقال ابن عباس: "آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً يُخنق". يعدّ الربا من الموبقات السبع التي تُلحق غضب الله بمرتكبها وتوبقه، إضافةً إلى ما يسبّبه من الأضرار والمخاطر بالمجتمع المسلم، قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، وَما هُنَّ؟ قالَ: الشِّرْكُ باللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا)،[١٢] كما يدلّ الحديث على أن الربا من كبائر الذنوب والخطايا

alshamelnews

{picture#https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEjMx7n0mCQhAcwTr2HOr9QuhcN3SK5AetAWwVrbCxm5SzJ6uenlpiOXLQfV-8Zi-Fzxt1WEmd9eRhjBTukjyCVC6-qhjfbqRYQ0isjRiRN-m-MDBDi9kM6U-3X0OKuQV4nc_zkEMWN7ba8/s0/%25D8%25B4%25D8%25A7%25D9%2585%25D9%2584.jpg} اعجبك المقال يرجى مشاركة الموضوع لتعم الفائدة
يتم التشغيل بواسطة Blogger.